"" مذ غدوتِ أماً... بات العيد يُفرحنا! ""

تيري رومانوس


رسالة الى دينا أ. من صديقات والدتها التي فارقت الحياة منذ اكثر من 20 عاماً ولم تكن دينا قد تجاوزت الخامسة من عمرها.

 

ما تزال باقة الورد الحمراء في المزهرية امام صورتها وهي عروس في فستانها الأبيض من تصميم بابو لحود، وكأن الزمن لم يمسّها بسوء. تلك الباقة كان والدُك قد قدمها لها لمناسبة عيد العشاق في 14 شباط. كان لا يدع مناسبة تمضي من دون أن يحتفلا بها معاً، عاشت معزّزة، مكرّمة في كنفه وترعرعت بعزّ ودلال في منزل والديها وبين اشقائها الثلاثة الذين كانت ترى الدنيا من خلالهم وبدورهم بادلوها المحبة والتقدير. في احدى المرات وفيما كانت تعدّ القهوة في المطبخ، راح والدك، يكلمنا عن روحها الحلوة وعن جمالها واناقتها ومستواها العلمي وكم هو فخور بها وكم هو مسرور بصداقتنا ثم اختتم كلامه قائلاً: "على سلامتكن انتو واياها" هذه الجملة ما تزال ترن في مسامعنا من خلالها علمنا مقدار حبه لها. عندما يتكلم الإنسان عن مزايا وصفات شخص آخر في غيابه فذلك اكبر دليل عن حبّه له. دينا، هنا لا تزال اشجار الصنوبر كما زرعها لها خضراء نضرة، لتظلل الحديقة التي صمّمها خصيصاً لكِ، لإقامة حفلات عيد ميلادك. كانا يرسمان معاً مستقبلكِ الزاهر ولم تكن تسعها الفرحة عندما تتكلم عنك وعن المشاريع التي تهيّئها لك، المدرسة التي سترتادينها، الهوايات التي ستزاولينها، حتى ملابسك وألعابك كانت تبتاعها لك من افخم المحلات واغلاها ثمناً. من الغرفة المطلة على منزِلكِ الوالدي، ما تزال ألعابك والكتب في المكتبة كما صففتها، النوافذ والستائر ايضاً، كانت تسدلها بأسلوب مميّز خاص بها... هنا، من الشرفة حيث كنا (انت تعرفين ان ابنتي خالها كانتا صديقتين حميمتين وتتواجدين دائماً الى جانبنا، لذا نتكلم بصفة الجمع) نكلمها وهي تصحبك الى بيت جدك، كل شيء يذكر بها اشجار اللوز التي ازهرت البارحة، اشجار الزيتون والليمون وازهار التوليب التي كانت تحبها، حتى اننا لا نزال نراها، فوق التلة مع اولاد الحي وكنتِ انت معهم، لم يتجاوز عمرك وقتذاك الخمس سنوات، وكانوا ينشدون اغنية في اللغة الفرنسية، تقول جملتها الأخيرة: "ما ابهى الحياة وما اجمل هذا العالم".

هذا العالم الذي اختطفها منك، من والدِك، من عائلتها الرائعة، من ابناء قريتها الذين بكوا دماً يوم وداعها، وداع غانيا، ابنة قرية رومية البارة، في ريعان الشباب، وهي لم تكن قد تجاوزت الثلاثين عاماً... قضت مع شقيقتك ابنة الأشهرٍ المعدودة بفعل قذيفة غادرة... ولو قدر للحجارة ان تتكلم، لعلمتِ كم كان فراقها مريراً. كنا نتسوّق معاً، ونقوم بمشاريع سوياً. مرة وبعد ولادتك بأشهر معدودة، قررنا الذهاب الى شاطئ البحر لممارسة السباحة، وكانت قد فقدت كل الوزن الذي كسبته، وعندما ظهرت "بالمايوه" لا نستطيع ان نقول لك كم كانت تبدو جميلة بجسمها السمهري ومع ذلك اشارت الى منطقة البطن قائلة: "انظروا بطني منذ متى انا كذلك، لا بدّ لي من ممارسة الرياضة لإزالة ما يتراكم ههنا!" لم يكن يتواجد شيء في هذه المنطقة لربما نصف سنتم بالكاد يُرى بالعين المجردة ومع ذلك ارادت التخلَص منه... كانت مثالا للمرأة اللبنانية المهتمة بشكلها ومظهرها اللائق...

كانت بشكل خاص، تحب عمها الأصغر كونه الأقرب لها لجهة السن وكان يصطحبها لحضور المسرحيات والحفلات الراقية قبل زواجها، كما كان لزوجته معزة خاصة في قلبها ففي أعياد ميلادك، كانت زوجة العم الماهرة لا تترك صنف حلوى الا وتعده لك، لا نزال نذكر الموائد العامرة التي كانت تقام على شرفك يا ست دينا... تذكرين ما كان يعلمك خالك الأكبر: "عندما يسألونك ما هو اسمك تجيبين انا الست دينا" وفعلاً كنت تجيبين كلما سُئلت عن اسمك: "انا الست دينا". وكنت في الثانية من العمر وكنا نضحك كثيراً. كما كنت كلما تردّدت على منزل خال أمك، تشاركين في ريّ الحديقة مع الخال وزوجته اللذين كانا يستقبلانك بسعادة لا توصف، وتبدأين في "زق" الماء وتتبلّل ملابسك، فتقول لك زوجة الخال وهي ضاحكة: "دينا كفي عن "اللقلقة" بالماء ستصابين بالبرد وتمرضين". فتظنين ان "اللقلقة" لعبة مسلية لكنها صعبة المنال بسبب البرد والتبلّل بحيث كنتِ كلما دعوناك لعندنا، أصررت وبجدية مع أصبعك المرفوع في وجوهنا، على القول: "آتي لكن شرط أن أُلَقلق". ولكَم كنا نضحك وطبعاً كنا نعطيك مرشة مليئة بالماء، وبلمح البصر يصبح المنزل شبه جزيرة عائمة. لم يكن تعويم المنزل مهماً، المهم ان تكون الست دينا سعيدة وتتحفنا بكلامها المهضوم والذكي. وكنت أكثر ما تكرهينه عندما تقعين، هو الضغط على جبينك بمكعبات الثلج... في احدى المرات، كنت تلهين معنا في المطبخ حيث كنا نرتب المائدة وعندما، اراد الزوج ان يشرب العرق، سألناه ان كان يريد "ثلجة" لكأسه، فصرخت مرتعبة: "ما بدو تلجي ما بدو تلجي !" فانفجرنا ضاحكين لدرجة اننا لم نستطع ان نشرح لك ان "التلجة" لكأس العرق وليس لرأسه المتورم. لا نستطيع ان نقول لك كم كنت "مهضومة" وتملأين دنيانا فرحاً وحبوراً. لذا، بعد رحيلها، كان اتعس يوم في حياتنا هو عيد الأمهات، لأننا كنا نشعر كم كنت تفتقدينها... أما بعد ان أصبحت اماً، بات أخف وقعاً علينا جميعاً، حفظك الرب يا دينا لأولادك وزوجك وكل عام وانت بخير يا أحلى وأطيب أم في العالم! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات