"" اللحوم الفاسدة... من يتاجر بنا؟ من يريد قتلنا؟ ""

«اللحوم أصبحت للأغنياء وليست لنا، هم يستطيعون تناولها كل يوم حتى لو اضطرهم الأمر إلى جلبها من الخارج فهم يمكنهم ذلك، لكن قدرنا نحن الفقراء أن نبقى وأولادنا عرضة للقتل حتى في تلك الحقوق التي تساوي بيننا وبين الحيوانات، أي الطعام»!...

 

هكذا يعبّر محمود عيد ابن الطريق الجديدة عن الكارثة التي حلّت بلبنان خصوصاً بأبناء منطقته حيث يقع مخزن اللحوم الفاسدة الذي ضبطته القوى الأمنية منذ أيام، ويقول: "جميع أبناء المنطقة وجوارها من دون استثناء كانوا يشترون اللحمة من شركة الناطور للحوم والأسماك المجلدة، ومن يقول عكس ذلك فهو إنسان كاذب، فهذا المكان كان مقصداً لنا نظراً إلى رخص الأسعار، ومن المعروف أنّ مناطقنا كلها ترزح تحت خط الفقر، وهذا ما كان يجبرنا على التردد الدائم إلى هذا المكان لابتياع حاجاتنا من لحوم وغيرها من مواد غذائية كالجبن واللبن والمعلبات".

من الفساد السياسي إلى الغذائي

وكأنه كُتب على اللبنانيين أن يعيشوا الفساد على أنواعه، فمن الفساد المؤسساتي المتفشي في البلد مروراً بالفساد السياسي وما ينتج عنه من أزمات متتالية، حطّ رحال الفساد أخيراً على لقمة عيشهم مستهدفاً هذه المرة حياتهم بشكل مباشر ضارباً أبسط حقوق المواطن الحياتية. ففي ملحمتي النور والناطور في منطقة صبرا الطريق الجديدة ضبط نحو اكثر من 40 طناً من اللحوم الفاسدة يعود تاريخ انتهائها إلى اكثر من عام أو حتى عامين.

هما شقيقان سوريان سميح وسليمان الناطور جنّسا منذ فترة طويلة، لكن على رغم ذلك فإن الرحمة والكف عن اللعب بمصائر الناس ليست من شيمهما، كيف والهمّ الأكبر بالنسبة إليهما، كان جني ثروات كبيرة تمكنهما من توسيع أنشطتهما الفاسدة على معظم الأراضي اللبنانية بعدما تجاوزت منذ فترة حدود بيروت لتشمل أيضاً مناطق في البقاع والشمال، ودائماً بحسب أبناء المنطقة.

أحمد ع.، أحد الذين عملوا لمدة عامين في شركة الناطور يشير الى أنه "كان في الخامسة عشرة من عمره عندما طلب منه م. الناطور إبن أحد أصحاب الشركة العمل عندهم"، ويؤكد أن "معظم اللحوم التي تباع كانت تُصبغ باللون الأحمر عن طريق المواد الصناعية لتحافظ نوعاً ما على لونها الطبيعي، وكنت أذهب دائماً بهذا الفان الأبيض، يشير الى حيث سيارة توزيع اللحوم متوقفة، مع المسؤول عن هذه المهمة لنوزعها على معظم مطاعم المنطقة وجوارها".

«صحتين» أبو محمود

ويحلف أحمد بالله العظيم "أن الأسماك المجلدة المنتهية صلاحيتها كانت تدقّ كاللحمة وتُباع على أنها طازجة إلى بعض الزبائن الذين يحبّون هكذا أنواع من الطعام"، ويلفت الى انه "اضطر ذات يوم الى تنبيه جاره عدم تناول هذه الأسماك لأنها مثلجة ومنتهية الصلاحية، فما كان من هذا الجار إلا أن تعارك مع معلّمه ليُفصل بعدها أحمد من عمله، ويستمر ذلك الجار بالتردد الى المكان لابتياع حاجياته الفاسدة بعدما أقنعوه بأنني كاذب". ويختم احمد حديثه مستهزئاً بجاره فيقول: "البارحة التقيت بجاري الذي تسبب بطردي من شركة الناطور فبادرته بالقول: "صحتين أبو محمود".

وبحسب ما يتناقل أهالي محلة الطريق الجديدة، أن هذه اللحوم كانت تباع للمواطنين ولأفخم فنادق بيروت ومحلاتها المعنية ببيع اللحوم قبل أن يعمد جهاز أمن الدولة الى دهم الملحمتين والمستودعات التابعة لهما وتوقيف الأخوين الناطور، كما عملت مديرية حماية المستهلك، على حجز البضاعة وإقفال الملحمتين والمستودعات بالشمع الأحمر، بعدما حرر أمن الدولة محضر ضبط مخالفة بحق الشقيقين وهما حتى الساعة رهن التحقيق في مديرية بيروت الإقليمية.

«الحق على الطليان»

أحد هؤلاء السكان يؤكد أنّ "الشقيقين مدعومان من رجل سياسي نافذ، وقد يخرجان من مكان احتجازهما خلال أيام، ويعتقد أنه سيصار إلى لملمة الموضوع بعد أن تُدان جهات خارجية بالقضية"، ويشير إلى أن "هذا هو الحال في لبنان، دائماً الحق على "الطليان" مع أن هذا الأمر أصبح مألوفاً، ولكن على رغم خطورة هذه المسألة فهي تتكرر دائما بأشكال مختلفة".

النيابة العامة تحركت...

وكانت النيابة العامة في بيروت ادّعت على كل من الشقيقين سميح وسليمان الناطور، بجرم محاولة القتل، بعدما ضبطت المديرية العامة لأمن الدولة، صباح الأربعاء الماضي، أطناناً من اللحوم المنتهية الصلاحية في مستودع يملكه سميح في الشياح، وفي ملحمة يملكها سليمان في صبرا. وفيما كان الرقم الأولي يفيد بأن مجموع اللحوم المضبوطة يساوي 25 طناً، أظهرت نتائج الفرز، أن الرقم الفعلي وصل إلى 181 طناً، موزعة كالتالي: 171 طنا من اللحوم، وعشرة أطنان من الأسماك والأجبان، إضافة إلى كميات من الدجاج.

وبيّنت عمليات الفرز أن الكميات الكبيرة من المواد الفاسدة كانت في حوزة سميح، الذي عثر في مستودعه على 160 طناً (من لحوم وأسماك ودجاج وأجبان)، بينما ضبط عند شقيقه سليمان 21 طناً، في مستودع الملحمة التي يملكها.

وفي حين أحالت النيابة العامة في بيروت ملف التحقيق، على قاضي التحقيق الأول في بيروت غسان عويدات، فإن علامات استفهام كبيرة تُطرح في السياق، خصوصاً بعدما سبّبت الفضيحة هلعاً كبيراً بين المواطنين.

إفادة أحد الشقيقين

وتشير المعلومات الى أنّ "أحد الشقيقين أكد في إفاداته للقوى الأمنية، أنه كان في طور تلف مجمل المواد المنتهية الصلاحية التي يملكها، معلّلا سبب بقائها بأنه كان سيصدّرها إلى سوريا لكن الأوضاع الحالية لم تسمح بذلك". لكن في المقابل، عُلم أنّ "قسماً كبيراً من هذه اللحوم داخل أكياس النيلون قد تم بيعها في بعض المناطق الشمالية، وان احد الشقيقين كان في وارد تغليف معظم تلك البضائع لإعادة بيعها في السوق المحلية".

واكثر ما يثير الاستغراب، التصاريح التي خرجت على ألسنة اكثر من مصدر أمني وقضائي واقتصادي، لجهة غياب "أي أدلة قاطعة أو وثائق تثبت أن الشقيقين وزّعا فعلاً كميات معيّنة الى بعض المؤسسات المعنية بتجارتهما"، ولكن على رغم ذلك، يؤكد المعنيون في القضية، أن "التحقيقات ستؤدي إلى كشف التفاصيل كافة، خصوصاً أنه من غير المنطقي أن يحتفظ التاجر بكميات كبيرة من المواد الفاسدة، لأسباب بريئة".

أين دور حماية المستهلك؟

تشير المعلومات الأولية، إلى أنّ "مصلحة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد، قد كشفت على نحو مئة مؤسسة تجارية، يُشتبه في أنها كانت تشتري بعض المواد الغذائية من الشقيقين، ولكن تبيّن أن مواد هذه المؤسسات سليمة، في المقابل تعمل التحقيقات الحالية على معرفة طريقة وصول 170 كرتونة، تزن كل واحدة منها 25 كيلوغراماً من اللحوم الفاسدة من الصين إلى لبنان، كانت وجهتها في الأصل كما قيل الى إسرائيل".

عوارض اللحوم الفاسدة

ويبقى السؤال الأهم، ما هو تأثير هذه المواد الفاسدة على حياة الناس؟ يؤكد المسؤول عن المختبرات في مستشفى سان شارل الدكتور طوني فضّول أنّ "استهلاك اللحوم الفاسدة فيه من الخطورة على صحة المواطن إلى درجة إنهاء الحياة!" ويعرض لـ"الجمهورية" تداعيات تناول اللحم الفاسد والعوارض الصحية التي يمكن أن يشعر بها المريض، فيقول إن "أنواعاً عديدة من الطفيليات يمكن أن تحويها اللحوم المنتهية الصلاحية والتي تسبب مرض الزحار (Dysentery)، كما أنها قد تؤدي إلى إصابة الحوامل بداء المقوسات أو Toxoplasmosis، الذي من شأنه أن يترك تشوهات خلقية عند الجنين".

ويضيف: "تحوي اللحوم الفاسدة أيضاً على الفيروسات الغدانية Adenoviruses والفيروس العجلي Rotavirus التي تسبب الإسهال، وهي ذات خطورة عالية إذا ما أصابت الأطفال. كما أن هناك نوعاً من الطفيليات Parasites يؤدي إلى تشمّع كبد الإنسان، إضافة إلى مرض الحلزون الذي يصيب متناولي اللحوم النيئة".

هذه الأمراض، كما يشرح فضّول، عادة ما تظهر عوارضها فور تناول اللحوم الفاسدة، وفي أقصى الحالات بعد ثلاثة أيام. لكن ثمة ما هو أخطر وأصعب! إذ يؤكد فضّول أنّ بعض الفيروسات والبكتيريا تظهر عوارضها بعد مرور عشر سنوات.

ويشرح أنّ "بروتين البريون Prion المسبب لمرض جنون البقر خطير جداً، ويترك ترسبات على المدى الطويل في الدماغ من شأنها أن تعرّض المريض إلى مشاكل، ومنها فقدان التواصل مع الواقع، وحتى الموت. أما الحمّة المالطية مثلاً فيمكن أن تستقرّ في العمود الفقري مسببة التهابات مزمنة".

ويتابع فضّول: "من ناحية أخرى، لا نعرف هل تلاعب تجار هذه اللحوم الفاسدة بها عبر إضافة مواد كيماوية أو ملونات غذائية بغية حفظها لأكثر وقت ممكن، علماً أن هذه المواد تسبب أمراضاً سرطانية".

وهل تتأثر الفيروسات والبكتيريا الموجودة في اللحوم الفاسدة بالحرارة العالية، يوضح فضّول: "معظم أنواع الفيروسات والفطريات والطفيليات والبكتيريا يمكن القضاء عليها من خلال طهوها على درجة حرارة 60 وما فوق، إلا أن بعض البروتينات كالبريون تحتاج إلى حرارة تفوق الـ500 درجة وهذا ما لا يحدث في أثناء الطبخ. ومن ناحية أخرى، فإنّ بعض المواد الكيماوية الحافظة قد تتفكك تحت تأثير الحرارة العالية، وتصبح اشدّ خطورة".

يذهب فضّول إلى حدّ الدعوة إلى إنشاء هيئة طوارئ تعنى بالأمن الغذائي، ويصرّ على ضرورة كشف أسماء الموزعين وكلّ المطاعم والفنادق والمؤسسات التي اشترت هذه اللحوم ليطمئن المواطن من جهة، وتبدأ عملية المحاسبة فعلياً لوضع حدّ لهذه الجريمة. أما نصيحته للمواطنين فيلخّصها بـ "عدم الهلع"، طالباً منهم استشارة طبيبهم في حال إصابتهم بعوارض صحية كالإسهال والحرارة.

وبالعودة إلى أصل الحكاية، فإن البعض من أبناء منطقة الطريق الجديدة يقول "إنّ عملية دهم متاجر اللحوم الفاسدة وتوقيف كل من سميح الناطور وشقيقه قد تمت عن طريق الخطأ، حيث يشير هؤلاء إلى أن العملية جاءت إثر ورود معلومات تفيد بوجود مخزن أسلحة في الملحمة، لكن الرواية الأمنية تشير إلى أن الاشتباه الأول كان بسليمان، بعدما وردت معلومة إلى المديرية العامة لأمن الدولة، من أحد مخبريها تؤكد أن الرجل يبيع لحوماً منتهية الصلاحية وفاسدة".

ويبقى السؤال في حال تم الإفراج عن الشقيقين: هل سيمنعان من مزاولة عملهما لاحقاً، أم أن هناك جهات نافذة استفادت هي الأخرى من هذه التجارة وستعمل على إعادة المياه إلى مجاريها بين "الناطورين" وأصحاب البطون الجائعة من خلال صك براءة فاسد هو الآخر؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات